فصل: الحديث الثَّانِي بعد السِّتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث الثَّانِي بعد السِّتين:

قَالَ الرَّافِعِيّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- ثمَّ الإِمَام فِي صَلَاة الصُّبْح هَل يجْهر بِالْقُنُوتِ؟ فِيهِ وَجْهَان: أظهرهمَا أَنه يجْهر؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ الْجَهْر بِهِ عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم. هُوَ كَمَا قَالَ، فَفِي صَحِيح البُخَارِيّ فِي كتاب التَّفْسِير عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يَدْعُو عَلَى أحد أَو يَدْعُو لأحد قنت بعد الرُّكُوع فَرُبمَا قَالَ: إِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده، اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد، اللَّهُمَّ أَنْج الْوَلِيد بن الْوَلِيد...» الحَدِيث. وَفِي آخِره: «يجْهر بذلك».
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَحَدِيث بِئْر مَعُونَة يدل عَلَى أَنه كَانَ يجْهر بِهِ فِي جَمِيع الصَّلَوَات. هُوَ ظَاهر مَا أوردته.

.الحديث الثَّالِث بعد السِّتين:

عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «كَانَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يقنت وَنحن نؤمن خَلفه».
هَكَذَا هُوَ فِي «الشَّامِل» لِابْنِ الصّباغ أَيْضا، وقد قدمْنَاهُ بِطُولِهِ قَرِيبا فِي الحَدِيث التَّاسِع بعد الْخمسين بِلَفْظ «ويؤمن من خَلفه» فَيحْتَمل أَن يقْرَأ بنُون فِي أول «نؤمن» ثمَّ بعد الْكَلِمَة «مِن» الجارة بِكَسْر الْمِيم. و«خَلفه» بِالْجَرِّ ب من فيوافق إِذن مَا أوردهُ الرَّافِعِيّ، وَيحْتَمل أَن يقْرَأ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة تَحت فِي أَوله ثمَّ بعد الْكَلِمَة «من» بِفَتْح الْمِيم مَوْصُولَة بِمَعْنى الَّذِي و«خَلفه» بِالنّصب عَلَى الظّرْف.

.الحَدِيث الرَّابِع بعد السِّتين:

عَن ابْن عَبَّاس- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما- أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِذا دَعَوْت فَادع ببطون كفيك، وَإِذا فرغت فامسح راحتيك عَلَى وَجهك»
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عبد الله بن مسلمة، نَا عبد الْملك بن مُحَمَّد بن أَيمن، عَن عبد الله بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق، عَمَّن حَدثهُ، عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ قَالَ: حَدثنِي عبد الله بن عَبَّاس أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَا تستروا الْجدر، وَمن نظر فِي كتاب أَخِيه بِغَيْر إِذْنه فَكَأَنَّمَا ينظر فِي النَّار. سلوا الله ببطون أكفكم وَلَا تسألوه بظهورها، فَإِذا فَرَغْتُمْ فامسحوا بهَا وُجُوهكُم». قَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا الحَدِيث رُوِيَ من غير وَجه عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ كلهَا واهية، وَهَذَا الطَّرِيق أمثلها وَهُوَ ضَعِيف أَيْضا. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه وَابْن مَاجَه فِي سنَنه وَاللَّفْظ لَهُ، وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه من حَدِيث صَالح بن حسان عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا «إِذا دَعَوْت الله فَادع ببطون كفيك وَلَا تدع بظهورهما، فَإِذا فرغت فامسح بهما وَجهك» وَلَفظ الْحَاكِم «إِذا سَأَلْتُم الله فَاسْأَلُوهُ ببطون أكفكم، وَلَا تسألوه بظهورها، وامسحوا بهَا وُجُوهكُم» وَصَالح هَذَا ضَعَّفُوهُ. وَقَالَ البُخَارِيّ والرازي: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ يروي الموضوعات عَن الثِّقَات. وَقَالَ ابْن طَاهِر فِي تَذكرته: كَذَّاب. لَا جرم قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي علله: سَأَلت أبي عَنهُ، فَقَالَ: حَدِيث مُنكر. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي علله: حَدِيث لَا يَصح. وَقَالَ أَحْمد: لَا يعرف هَذَا أَنه كَانَ يمسح وَجهه بعد الدُّعَاء إِلَّا عَن الْحسن. وَنقل النَّوَوِيّ فِي خلاصته اتِّفَاق الْحفاظ عَلَى تَضْعِيفه. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه: لست أحفظ فِي مسح الْوَجْه- هُنَا- عَن أحد من السّلف شَيْئا، وَإِن كَانَ يرْوَى عَن بَعضهم فِي الدُّعَاء خَارج الصَّلَاة. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيث فِيهِ ضعف وَهُوَ مُسْتَعْمل عِنْد بَعضهم خَارج الصَّلَاة، فَأَما فِي الصَّلَاة فَهُوَ عمل لم يثبت فِيهِ أثر وَلَا خبر وَلَا قِيَاس، وَالْأولَى أَن لَا يَفْعَله ويقتصر عَلَى مَا فعله السّلف- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم- من رفع الْيَدَيْنِ دون مسحهما بِالْوَجْهِ فِي الصَّلَاة. ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ الحَدِيث السالف، وَنقل كَلَام أبي دَاوُد فِيهِ، ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن الْمُبَارك أَنه سُئِلَ عَن مسح الْوَجْه إِذا دَعَا الْإِنْسَان قَالَ: لم أجد لَهُ شَاهدا. هَذَا آخر كَلَام الْبَيْهَقِيّ.
وَأما حَدِيث عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا رفع يَدَيْهِ فِي الدُّعَاء لم يحطهما حَتَّى يمسح بهما وَجهه فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: غَرِيب، انْفَرد بِهِ حَمَّاد بن عِيسَى. قلت: هُوَ الْجُهَنِيّ غريق الْجحْفَة، ضَعَّفُوهُ، وَأَتَى عَن جَعْفَر الصَّادِق وَابْن جريج بطامات.
وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: هَذَا حَدِيث مُنكر. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي علله: قَالَ أَبُو زرْعَة: هَذَا حَدِيث مُنكر، أَخَاف أَن لَا يكون لَهُ أصل. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي علله: لَا يَصح. وَنقل عبد الْحق فِي أَحْكَامه أَن التِّرْمِذِيّ صَححهُ، وَقد قيل إِنَّه وجد كَذَلِك فِي غير مَا نُسْخَة مِنْهُ، لَكِن ابْن الصّلاح ثمَّ النَّوَوِيّ غلطاه فِي هَذَا النَّقْل عَنهُ، فَإِن يثبت ذَلِك عَن التِّرْمِذِيّ فَلَيْسَ بجيد مِنْهُ، وينكر عَلَى ابْن السكن فِي إِدْخَاله لَهُ فِي سنَنه الصِّحَاح المأثورة. وَالله أعلم.

.الحَدِيث الْخَامِس بعد السِّتين:

عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يرفع الْيَد إِلَّا فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن: الاستستقاء، والاستنصار، وَعَشِيَّة عَرَفَة».
هَذَا الحَدِيث قدمت الْكَلَام عَلَيْهِ فِي الْفَصْل الْمَعْقُود لما عَارض الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي الرّفْع وَأَنه غَرِيب، لَا نَعْرِف من خرجه من حَدِيث أنس وَأَن الْمَعْرُوف إرْسَاله، وَقد قَدمته هُنَاكَ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس قَالَ: «كَانَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يرفع يَدَيْهِ فِي شَيْء من دُعَائِهِ إِلَّا فِي الاسْتِسْقَاء، وَأَنه يرفع يَدَيْهِ حَتَّى يرَى بَيَاض إبطَيْهِ».
قلت: وَثَبت أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم رفع يَدَيْهِ فِي عدَّة مَوَاضِع أخر مِنْهَا: فِي الْقُنُوت، رَوَاهُ أنس، وَهُوَ فِي سنَن الْبَيْهَقِيّ، وَمِنْهَا فِي دُعَائِهِ لأهل البقيع، روته عَائِشَة، وَهُوَ فِي صَحِيح مُسلم، وَمِنْهَا فِي دُعَائِهِ يَوْم بدر وَقَوله: «اللَّهُمَّ أنْجز لي مَا وَعَدتنِي». رَوَاهُ عمر بن الْخطاب وَهُوَ فِي صَحِيح مُسلم أَيْضا، وَمِنْهَا فِي دُعَائِهِ عِنْد الْجَمْرَة الدُّنْيَا وَالْوُسْطَى، رَوَاهُ ابْنه عبد الله وَهُوَ فِي صَحِيح البُخَارِيّ، وَمِنْهَا لما صبح خَيْبَر وَقَالَ: «الله أكبر خربَتْ خَيْبَر». رَوَاهُ أنس وَهُوَ فِي صَحِيح البُخَارِيّ أَيْضا، وَمِنْهَا فِي دُعَائِهِ لأبي عَامر لما اسْتشْهد رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي كتاب رفع الْيَدَيْنِ للْبُخَارِيّ الرّفْع عَنهُ من حَدِيث عَائِشَة وَأبي هُرَيْرَة وَجَابِر وَعلي وَقَالَ: هِيَ صَحِيحَة. إِذا علمت ذَلِك فيتأول حَدِيث أنس أَنه أَرَادَ الرّفْع البليغ فقد رَوَى هُوَ بعض ذَلِك.

.الحديث السَّادِس بعد السِّتين:

عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِذا سجدت فمكن جبهتك من الأَرْض وَلَا تنقر نقرًا».
هَذَا الحَدِيث كَرَّرَه الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب، وَذكره الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي مهذبه، وبيض لَهُ الْمُنْذِرِيّ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيثه، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شَرحه: هَذَا حَدِيث غَرِيب ضَعِيف، وَذكره فِي خلاصته فِي فصل الضَّعِيف وَأَشَارَ غَيره إِلَى غنية الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة عَنهُ لما لم يظفر بِهِ وَهِي «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يسْجد عَلَى جَبهته ويمكنها» وَمن ذَلِك حَدِيث أبي حميد السَّاعِدِيّ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا سجد أمكن جَبهته وَأَنْفه». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مطولا، وَمِنْهَا حَدِيث وَائِل بن حجر قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْجد عَلَى الأَرْض وَاضِعا جَبهته وَأَنْفه فِي سُجُوده». رَوَاهُ أَحْمد.
وَمِنْهَا حَدِيث رِفَاعَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لرجل: إِذا أَنْت سجدت فَأثْبت وَجهك ويديك حَتَّى يطمئن كل عظم مِنْك إِلَى مَوْضِعه» رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه.
وَهَذَا غَرِيب من هَؤُلَاءِ، فَالْحَدِيث مَوْجُود بِعَيْنِه فِي المعجم الْكَبِير للطبراني عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الدبرِي، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن ابْن مُجَاهِد، عَن أَبِيه، عَن ابْن عمر مطولا وَفِيه: «فَإِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فركعت فضع يَديك عَلَى ركبتيك وَفرج بَين أصابعك، ثمَّ ارْفَعْ رَأسك حَتَّى يرجع كل عُضْو إِلَى مفصله، وَإِذا سجدت فَأمكن جبهتك من الأَرْض وَلَا تنقر». ثمَّ ذكر بَاقِيه: بِطُولِهِ إِسْحَاق الدبرِي صَدُوق احْتج بِهِ أَبُو عوَانَة فِي صَحِيحه وَإِن استصغر فِي شَيْخه عبد الرَّزَّاق الإِمَام وَلَا عِبْرَة بِمن تكلم فِيهِ، وَمُجاهد سمع من ابْن عمر، قَالَ البرديجي الَّذِي صَحَّ لمجاهد من الصَّحَابَة ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَأَبُو هُرَيْرَة عَلَى خلاف فِيهِ.
قلت: لَكِن الشَّأْن فِي ابْن مُجَاهِد فَإِنَّهُ أحد الضُّعَفَاء كذبه سُفْيَان الثَّوْريّ. وَقَالَ النَّسَائِيّ وَغَيره: مَتْرُوك ثمَّ رَأَيْته بعد ذَلِك بإسقاطه من غير هَذَا الْوَجْه أخرجه أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه فَالْحَمْد لله عَلَى زَوَال الغرابة والضعف عَنهُ كَمَا ادعِي. قَالَ أَبُو حَاتِم: أَنا الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن مُصعب السنجي، نَا مُحَمَّد بن عمر بن الْهياج، نَا يَحْيَى بن عبد الرَّحْمَن الأرحبي، حَدثنِي عُبَيْدَة بن الْأسود، عَن الْقَاسِم بن الْوَلِيد، عَن سِنَان بن الْحَارِث بن مصرف، عَن طَلْحَة بن مصرف، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عمر قَالَ: «جَاءَ رجل من الْأَنْصَار إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله، كَلِمَات أسأَل عَنْهُن، قَالَ: اجْلِسْ، وَجَاء رجل من ثَقِيف فَقَالَ: يَا رَسُول الله، كَلِمَات أسأَل عَنْهُن فَقَالَ: سَبَقَك الْأنْصَارِيّ فَقَالَ الْأنْصَارِيّ: إِنَّه رجل غَرِيب، وَإِن للغريب حقًّا فابدأ بِهِ. فَأقبل عَلَى الثَّقَفِيّ فَقَالَ: إِن شِئْت أَجَبْتُك عَمَّا كنت تسْأَل، وَإِن شِئْت سَأَلتنِي وأخبرك. فَقَالَ: يَا رَسُول الله، بل أجبني عَمَّا كنت أَسأَلك قَالَ: جِئْت تَسْأَلنِي عَن الرُّكُوع وَالسُّجُود وَالصَّلَاة وَالصَّوْم. فَقَالَ: لَا والَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ مَا أَخْطَأت مِمَّا كَانَ فِي نَفسِي شَيْئا. قَالَ: فَإِذا ركعت فضع راحتيك عَلَى ركبتيك، ثمَّ فرج بَين أصابعك ثمَّ امْكُث حَتَّى يَأْخُذ كل عُضْو مأخذه، وَإِذا سجدت فمكن جبهتك، وَلَا تنقر نقرًا، وصل أول النَّهَار وَآخره. فَقَالَ: يَا نَبِي الله، فَإِن أَنا صليت بَينهمَا؟ قَالَ: فَأَنت إِذا مصلٍّ، وصم من كل شهر ثَلَاث عشرَة وَأَرْبع عشرَة وَخمْس عشرَة. فَقَامَ الثَّقَفِيّ، ثمَّ أقبل عَلَى الْأنْصَارِيّ فَقَالَ: إِن شِئْت أَخْبَرتك عَمَّا جِئْت تسْأَل، وَإِن شِئْت سَأَلتنِي فأخبرك. فَقَالَ: لَا يَا نَبِي الله، أَخْبرنِي عَمَّا جِئْت أَسأَلك. قَالَ: جِئْت تَسْأَلنِي عَن الْحَاج مَا لَهُ حِين يخرج من بَيته، وَمَا لَهُ حِين يقوم بِعَرَفَات، وَمَا لَهُ حِين يَرْمِي الْجمار، وَمَا لَهُ حِين يحلق رَأسه، وَمَا لَهُ حِين يقْضِي آخر طَوَافه بِالْبَيْتِ، فَقَالَ: يَا نَبِي الله، وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ مَا أَخْطَأت مِمَّا كَانَ فِي نَفسِي شَيْئا...» فَذكره بِطُولِهِ، وَقد سقته فِي شرحي الصَّغِير «للمنهاج».
قلت: وَرُوِيَ فِي حَدِيث آخر «وَلَا تنقر كنقر الديك» رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي كِتَابه تَلْخِيص الْمُتَشَابه من حَدِيث أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهُ فِي جملَة حَدِيث طَوِيل: «يَا بني، إِذا سجدت فَأمكن جبهتك من الأَرْض وَلَا تنقر نقر الديك» لكنه حَدِيث ضَعِيف فِي إِسْنَاده بشر بن إِبْرَاهِيم المفلوج الوضاع.

.الحديث السَّابِع بعد السِّتين:

عَن جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم سجد بِأَعْلَى جَبهته عَلَى قصاص الشّعْر».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن عبد الْعَزِيز بن عبيد الله قَالَ: «قلت لوهب بن كيسَان: مَا لَك لَا تمكن جبهتك وأنفك من الأَرْض؟ قَالَ: ذَلِك أَنِّي سَمِعت جَابر بن عبد الله يَقُول: رَأَيْت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْجد بِأَعْلَى جَبهته عَلَى قصاص الشّعْر».
ثمَّ قَالَ: تفرد بِهِ عبد الْعَزِيز، عَن وهب، وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ عبد الْحق: عبد الْعَزِيز هَذَا لم يرو عَنهُ إِلَّا إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش وَهُوَ ضَعِيف وَحَدِيثه مُنكر، وَهَذَا قَالَه يَحْيَى بن معِين فِيهِ. وَنقل ابْن الْجَوْزِيّ فِي ضُعَفَائِهِ عَن الدَّارَقُطْنِيّ أَنه قَالَ فِي حَقه: لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: مُضْطَرب الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك.
فَائِدَة: قصاص الشّعْر- مثلث الْقَاف-: أول منبته من مقدم الرَّأْس وَالتَّقْيِيد بِكَوْنِهِ من مقدم الرَّأْس إِنَّمَا هُوَ تَفْسِير للْقصَاص الْوَاقِع فِي الحَدِيث، وَأما مَفْهُومه اللّغَوِيّ فَينْطَلق عَلَى مُنْتَهى الشّعْر سَوَاء كَانَ من الْمُقدم أَو الْمُؤخر، قَالَه الْجَوْهَرِي، وَالضَّم أفْصح.

.الحديث الثَّامِن بعد السِّتين:

عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «أمرت أَن أَسجد عَلَى سَبْعَة أعظم: عَلَى الْجَبْهَة- وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنفه- وَالْيَدَيْنِ، والركبتين، وأطراف الْقَدَمَيْنِ».
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَزِيَادَة: «وَلَا أكفت الثِّيَاب وَلَا الشّعْر». وَفِي رِوَايَة لَهما «أمرت أَن أَسجد عَلَى سبع وَلَا أكفت الشّعْر وَلَا الثِّيَاب: الْجَبْهَة، وَالْأنف، وَالْيَدَيْنِ، والركبتين والقدمين» وَفِي رِوَايَة لَهما: «أُمر النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يسْجد عَلَى سَبْعَة أعظم: الْكَفَّيْنِ، والركبتين، والقدمين، والجبهة». قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى «عَلَى سَبْعَة آرَاب».
قلت: هَذِه الرِّوَايَة صَحِيحَة رَوَاهَا أَبُو دَاوُد فِي سنَنه من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا وَلَفظه: «أمرت- وَرُبمَا قَالَ: أَمر نَبِيكُم- أَن نسجد عَلَى سَبْعَة آرَاب». إِسْنَاده صَحِيح. وَعَزاهُ غير وَاحِد من الْحفاظ كالبيهقي وَغَيره إِلَى مُسلم فِي صَحِيحه أَنه قد رَوَى فِيهِ من حَدِيث الْعَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه سمع رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: «إِذا سجد العَبْد سجد مَعَه سَبْعَة آرَاب وَجهه، وَكَفاهُ، وَركبَتَاهُ، وَقَدمَاهُ». وَوَقع فِي مُسْتَدْرك الْحَاكِم فِي أثْنَاء كتاب صَلَاة الْجَمَاعَة أَن البُخَارِيّ وَمُسلمًا اتفقَا عَلَى حَدِيث مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن عَامر بن سعد، عَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب أَنه سمع رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: «إِذا سجد العَبْد سجد مَعَه سَبْعَة آرَاب» الحَدِيث.
وَهَذَا عَجِيب مِنْهُ فَلَيْسَ هُوَ فِي البُخَارِيّ قطعا، وَإِنَّمَا هُوَ فِي بعض نسخ مُسلم كَمَا نبه عَلَيْهِ القَاضِي عِيَاض فِي إكماله وَلم أره أَنا فِي شَيْء من نسخه. قَالَ الْبَزَّار فِي مُسْنده: وَلَا نعلم أحدا قَالَ: الْآرَاب إِلَّا الْعَبَّاس.
قلت: قد قَالَهَا وَلَده أَيْضا كَمَا نقلنا ذَلِك عَن سنَن أبي دَاوُد وَقَالَهَا أَيْضا غَيرهمَا فَفِي مُسْند عبد بن حميد حَدثنِي ابْن أبي شيبَة، نَا مُحَمَّد بن عمر، عَن عبد الله بن جَعْفَر، عَن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد، عَن عَامر بن سعد، عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِذا سجد العَبْد يسْجد عَلَى سَبْعَة آرَاب: وَجهه، وكفيه، وركبتيه، وقدميه، فَمَا لم يَقع بعد انْتقصَ».
فَائِدَة: الْآرَاب: الْأَعْضَاء، وَاحِدهَا: إرب- بِكَسْر الْهمزَة وَإِسْكَان الرَّاء- قَالَ ابْن يُونُس فِي شرح التَّعْجِيز: والآراب- بِفَتْح الرَّاء وإسكانها- جمع إرب؛ أَي: عُضْو.

.الحديث التَّاسِع بعد السِّتين:

عَن خباب بن الْأَرَت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم حر الرمضاء فِي جباهنا وأكفنا فَلم يشكنا».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ كَذَلِك فِي سنَنه وخلافياته بِإِسْنَاد صَحِيح، قَالَ فِي خلافياته: رَوَاهُ زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة، عَن أبي إِسْحَاق كَذَلِك، وزَكَرِيا مجمع عَلَى عَدَالَته، وَكَذَلِكَ الطَّرِيق إِلَيْهِ سديد، وَالزِّيَادَة من الثِّقَة مَقْبُولَة. وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَقَالَ الْحَاكِم فِي أربعينه: أَنا ابْن خُزَيْمَة، نَا الْعَبَّاس بن الْفضل، نَا أَحْمد بن يُونُس، نَا أَبُو إِسْحَاق، عَن سعيد بن وهب، عَن خباب قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم حر الرمضاء فِي جباهنا وأكفنا فَلم يشكنا» ثمَّ قَالَ: رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه، عَن أَحْمد بن يُونُس.
قلت: مُرَاده أَصله؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ لفظ «جباهنا وأكفنا» هَذَا لفظ مُسلم: ثَنَا أَحْمد بن يُونُس، نَا أَبُو إِسْحَاق زُهَيْر بن حَرْب، عَن أبي إِسْحَاق السبيعِي، عَن سعيد بن وهب، عَن خباب بن الْأَرَت قَالَ: «أَتَيْنَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فشكونا إِلَيْهِ حر الرمضاء فَلم يشكنا».
قَالَ زُهَيْر: قلت لأبي إِسْحَاق: أَفِي الظّهْر؟ قَالَ: نعم. قلت: أَفِي تَعْجِيلهَا؟ قَالَ: نعم. وَفِي رِوَايَة لَهُ: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّلَاة فِي الرمضاء فَلم يشكنا» وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر، عَن عبد الله بن أَحْمد، نَا خَلاد بن يَحْيَى، نَا يُونُس بن أبي إِسْحَاق، نَا سعيد بن وهب، نَا خباب قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم حر الرمضاء فَمَا أشكانا، وَقَالَ: إِذا زَالَت الشَّمْس فصلوا».
وَرَوَى هَذِه الزِّيَادَة أَيْضا الْبَيْهَقِيّ وصححها ابْن الْقطَّان، فَقَالَ فِي الْوَهم والإِيهام: يُونُس بن أبي إِسْحَاق قد شَارك أَبَاهُ فِي أَشْيَاخ، مِنْهُم: نَاجِية بن كَعْب وَغَيره فَلَا بعد فِي قَوْله: نَا سعيد بن وهب. وَهُوَ فِي كتاب مُسلم بِدُونِ هَذِه الزِّيَادَة من رِوَايَة أبي إِسْحَاق، عَن سعيد لَكِن من غير رِوَايَة يُونُس، فَلَعَلَّ يُونُس حفظ عَن سعيد الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة مَا لم يحفظ أَبوهُ أَبُو إِسْحَاق. وَيُونُس ثِقَة حَافظ، وخلاد بن يَحْيَى ثِقَة أحد أَشْيَاخ البُخَارِيّ.
قلت: وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث أَيْضا من رِوَايَة أبي إِسْحَاق، عَن حَارِثَة بن مضرب عَنهُ، رَوَاهُ وَكِيع، عَن الْأَعْمَش قَالَ عبد الرَّحْمَن: سَأَلت أَبَا زرْعَة عَنهُ فَقَالَ: أَخطَأ فِيهِ وَكِيع بن الْجراح، إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا رَوَاهُ شُعْبَة وسُفْيَان وَزُهَيْر وَإِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق، عَن سعيد بن وهب، عَن خباب يرفعهُ، وَقَالَ أَيْضا: سَأَلت أبي وَأَبا زرْعَة عَن حَدِيث رَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة، عَن الْأَعْمَش، عَن عمَارَة، عَن أبي معمر، عَن خباب قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم حر الرمضاء فَلم يشكنا». قَالَ أبي: هَذَا خطأ، أَخطَأ فِيهِ ابْن عُيَيْنَة، لَيْسَ لهَذَا أصل، مَا نَدْرِي كَيفَ أَخطَأ وَمَا أَرَادَ. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: إِنَّمَا أَرَادَ ابْن عُيَيْنَة حَدِيث الْأَعْمَش، عَن عمَارَة، عَن أبي معمر، عَن خباب أَنه قيل لَهُ «كَيفَ تعرفُون قِرَاءَة رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: باضطراب لحيته». قلت لأبي زرْعَة: عَنهُ الحديثان جَمِيعًا؟ فَقَالَ: أَحدهمَا وَالْآخر خطأ. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: الصَّحِيح حَدِيث الْأَعْمَش، عَن أبي إِسْحَاق، عَن حَارِثَة، عَن خباب قَالَ: «شَكَوْنَا...» وَابْن عُيَيْنَة وهم فِيهِ وَفِي «علل التِّرْمِذِيّ» من حَدِيث زيد بن جُبَير، عَن خشف بن مَالك، عَن أَبِيه عَن عبد الله قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم حر الرمضاء فَلم يشكنا» ثمَّ قَالَ: سَأَلت مُحَمَّدًا عَنهُ، فَقَالَ: الصَّحِيح عَن عبد الله مَوْقُوف.
تَنْبِيهَات:
أَحدهَا: وَقع فِي أَحْكَام الْمُحب الطَّبَرِيّ أَن البُخَارِيّ أخرج حَدِيث خباب هَذَا، وَهُوَ وهم، وَقد شهد عبد الْحق فِي أَحْكَامه بِأَن البُخَارِيّ لم يُخرجهُ.
ثَانِيهَا: اسْتدلَّ الرَّافِعِيّ بِهَذَا الحَدِيث عَلَى وجوب كشف الْجَبْهَة فِي السُّجُود تبعا للأصحاب. وَاعْترض بَعضهم عَلَى الِاسْتِدْلَال بِهِ وَقَالَ: إِنَّه إِنَّمَا ورد فِي الْإِبْرَاد. وَهَذَا الِاعْتِرَاض ضَعِيف كَمَا نبه عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب؛ لأَنهم شكوا حر الرمضاء فِي جباههم وأكفهم، وَلَو كَانَ الْكَشْف غير وَاجِب لقيل لَهُم استروها، فَلَمَّا لم يقل ذَلِك دلّ عَلَى أَنه لابد من كشفها.
ثَالِثهَا: اخْتلف فِي مَعْنَى هَذَا الحَدِيث فَقيل: لم يعذرنا، وَقيل: لم يحوجنا إِلَى الشكوى فِي الْمُسْتَقْبل. وَرِوَايَة ابْن الْمُنْذر السالفة مبينَة للْأولِ. قلت: لَكِن نسخ ذَلِك وَثبتت السّنة بعده بِالْأَمر بالإبراد كَمَا سلف فِي كتاب الصَّلَاة فِي عدَّة أَحَادِيث.
رَابِعهَا: خباب بخاء مُعْجمَة مَفْتُوحَة ثمَّ بَاء مُوَحدَة مُشَدّدَة ثمَّ ألف ثمَّ بَاء مُوَحدَة. والأرت: بِالْمُثَنَّاةِ فَوق كَلَفْظِ الْأَرَت فِي اللِّسَان. والرمضاء: شدَّة حر الأَرْض من وَقع الشَّمْس عَلَى الرمل وَغَيره، ويشكنا- بِضَم أَوله.
خَامِسهَا: هَذَا الحَدِيث رُوِيَ من حَدِيث جَابر أَيْضا، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أَصْغَر معاجمه من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن جَابر قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم حر الرمضاء فَلم يشكنا وَقَالَ: أَكْثرُوا من قَول لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه فَإِنَّهَا تدفع تِسْعَة وَتِسْعين بَابا من الضّر أدناها الْهم والفقر» ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر إِلَّا بلهط بن عباد الْمَكِّيّ، وَهُوَ عِنْدِي ثِقَة، تفرد بِهِ ابْن أبي عمر الْعَدنِي، عَن عبد الْمجِيد بن عبد الْعَزِيز بن أبي رواد، وَلَا يرْوَى عَن جَابر إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد وَلَا يحفظ بلهط حَدِيثا غير هَذَا. وَذكره الْعقيلِيّ فِي ضُعَفَائِهِ وَقَالَ: بلهط بن عباد، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر مَجْهُول فِي الرِّوَايَة وَالنّسب، حَدِيثه غير مَحْفُوظ، وَلَا يُتَابع عَلَيْهِ، وَهَذَا اللَّفْظ لَا يَصح، وَالْمَحْفُوظ إِلَى قَوْله: «فَلم يشكنا». وَتَبعهُ الذَّهَبِيّ فَقَالَ فِي الْمِيزَان: بلهط لَا يعرف، وَالْخَبَر مُنكر.

.الحديث السبعون:

رُوِيَ أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «الزق جبهتك بِالْأَرْضِ».
هَذَا الحَدِيث هُوَ بِمَعْنى الحَدِيث السَّادِس بعد السِّتين، وَقد سلف الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا.

.الحديث الحَادِي بعد السّبْعين:

عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «رَأَيْت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سُجُوده كالخرقة البالية».
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده الْغَزالِيّ وإمامه. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح: لم أجد لَهُ بعد الْبَحْث عَنهُ صِحَة. قَالَ: وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي التَّجَافِي فِي السُّجُود تنفيه، مِنْهَا حَدِيث مَيْمُونَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كَانَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا سجد لَو أَرَادَت بهمة أَن تمر من تَحْتَهُ لمرت مِمَّا يتجافى». رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه والبهمة- بِفَتْح الْبَاء وَإِسْكَان الْهَاء-: الصَّغِيرَة من أَوْلَاد الضَّأْن والمعز يَقع عَلَى الذّكر وَالْأُنْثَى وَتَبعهُ النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي «تنقيحه»: هَذَا الحَدِيث مُنكر لَا يعرف لَهُ أصل.
قلت: بل لَهُ أصل، وَلكنه ضَعِيف، رَوَاهُ سُلَيْمَان بن أبي كَرِيمَة، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة قَالَت: «كَانَت لَيْلَة النّصْف من شعْبَان فَبَاتَ عِنْدِي رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا كَانَ جَوف اللَّيْل فقدته فَلم أَجِدهُ، فأخذني مَا يَأْخُذ النِّسَاء من الْغيرَة، فتلففت بمرطي وطلبته فِي حجر نِسَائِهِ فَلم أَجِدهُ، فَانْصَرَفت إِلَى حُجْرَتي فَإِذا بِهِ كَالثَّوْبِ السَّاقِط عَلَى وَجه الأَرْض سَاجِدا وَهُوَ يَقُول فِي سُجُوده: اللَّهُمَّ سجد لَك سوَادِي...» الحَدِيث. ذكره كَذَلِك ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه النُّور فِي فَضَائِل الْأَيَّام والشهور وَلم يعله، نعم أعله فِي علله وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث لَا يَصح.
قَالَ ابْن عدي: سُلَيْمَان هَذَا عَامَّة أَحَادِيثه مَنَاكِير.
قلت: وَضَعفه أَيْضا- أَعنِي سُلَيْمَان. وَفِي الضُّعَفَاء لأبي حَاتِم بن حبَان من حَدِيث أم سَلمَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا قَامَ يُصَلِّي ظن الظَّان أَنه جَسَد لَا روح فِيهِ» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا أصل لَهُ.

.الحديث الثَّانِي بعد السّبْعين:

عَن وَائِل بن حجر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا سجد وضع رُكْبَتَيْهِ قبل يَدَيْهِ، وَإِذا نَهَضَ رفع يَدَيْهِ قبل رُكْبَتَيْهِ».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث يزِيد بن هَارُون، عَن شريك، عَن عَاصِم بن كُلَيْب، عَن أَبِيه، عَن وَائِل بن حجر قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا سجد...» الحَدِيث. ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، لَا نَعْرِف أحدا رَوَاهُ مثل هَذَا عَن شريك، وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أَكثر أهل الْعلم. وَقَالَ الْخطابِيّ: هُوَ أثبت من حَدِيث تَقْدِيم الْيَدَيْنِ، وَهُوَ أرْفق بالمصلي وَأحسن فِي الشكل ورأي الْعين. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قَالَ ابْن أبي دَاوُد وضع الرُّكْبَتَيْنِ قبل الْيَدَيْنِ تفرد بِهِ شريك القَاضِي، عَن عَاصِم بن كُلَيْب، وَشريك لَيْسَ بِقَوي فِيمَا ينْفَرد بِهِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَلم يحدث بِهِ عَن عَاصِم غير شريك. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الحَدِيث يعد فِي أَفْرَاد شريك القَاضِي، وَإِنَّمَا تَابعه همام مُرْسلا، هَكَذَا ذكره البُخَارِيّ وَغَيره من الْحفاظ الْمُتَقَدِّمين. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: لَا نَعْرِف أحدا رَوَاهُ غير شريك.
قلت: وَشريك هَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه فِي بَاب الرجل يَأْخُذ حَقه مِمَّن يمنعهُ: لم يحْتَج بِهِ أَكثر أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ. هَذَا كَلَامه وَهُوَ من رجال مُسلم وَالْأَرْبَعَة وَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَأخرج هَذَا الحَدِيث الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه من هَذَا الْوَجْه، ثمَّ قَالَ: شريك احْتج بِهِ مُسلم، قَالَ: وَكَذَا عَاصِم بن كُلَيْب.
قلت: وَفِيه أَيْضا مقَال قريب كَمَا ستعلمه فِي الحَدِيث الْمِائَة. وَأخرجه أَيْضا من هَذَا الْوَجْه ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي صَحِيحَيْهِمَا وَابْن السكن فِي سنَنه الصِّحَاح، وَقَالَ: إِنَّه مُخْتَلف فِيهِ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لم يقل هَذَا عَن شريك غير يزِيد بن هَارُون. قلت: وَهَذَا لَا يقْدَح فِي تَصْحِيحه لجلالة يزِيد وَحفظه. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَرَوَاهُ همام، عَن عَاصِم مُرْسلا وَلم يذكر فِيهِ وَائِل بن حجر.
قلت: وَهَذَا لَا يقْدَح فِيهِ أَيْضا لجلالة همام وثقته، وَنِهَايَة مَا فِيهِ تعَارض الْوَصْل والإرسال، وَقد علم مَا فِيهِ، وَيلْزم التِّرْمِذِيّ تَصْحِيحه؛ لِأَنَّهُ صحّح حَدِيث عَاصِم عَن أَبِيه، عَن وَائِل: «لأنظرن إِلَى صَلَاة النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا جلس للتَّشَهُّد...» الحَدِيث. وَادَّعَى الْحَازِمِي أَن الْمَحْفُوظ رِوَايَة الْإِرْسَال، فَقَالَ فِي ناسخه ومنسوخه: هَذَا حَدِيث حسن عَلَى شَرط د ت ق أَخْرجُوهُ فِي كتبهمْ من حَدِيث يزِيد بن هَارُون، عَن شريك. وَرَوَاهُ همام بن يَحْيَى، عَن مُحَمَّد بن جحادة، عَن عبد الْجَبَّار بن وَائِل، عَن أَبِيه مَرْفُوعا. قَالَ همام: ونا شَقِيق- يَعْنِي أَبَا اللَّيْث- عَن عَاصِم بن كُلَيْب عَن أَبِيه عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مُرْسلا وَهُوَ الْمَحْفُوظ. انْتَهَى كَلَامه. ويقابل كَلَامه بِأَن جماعات من الْحفاظ صححوه متصلًّا كَمَا سلف. ثمَّ ننبه بعد ذَلِك لأمور وَقعت فِي كَلَام التِّرْمِذِيّ- رحمنا الله وإياه.
أَولهَا: قَوْله: لَا نَعْرِف أحدا رَوَاهُ غير شريك وَقد علمت من حَال كَلَام الْحَازِمِي الْحَافِظ أَن همام بن يَحْيَى رَوَاهُ من طَرِيقين، وَأخرج أَبُو دَاوُد الطَّرِيق الثَّانِي، وَقد قَالَ التِّرْمِذِيّ نَفسه بعد ذَلِك: وَرَوَاهُ عَاصِم عَن همام مُرْسلا.
ثَانِيهَا: قَوْله إِن عَاصِمًا رَوَاهُ عَن همام غير مَعْرُوف، إِنَّمَا رَوَاهُ همام عَن شَقِيق، عَن عَاصِم. وَكَذَا ذكره أَبُو دَاوُد وَهُوَ نَفسه فِي علله.
ثَالِثهَا: نقل مثل ذَلِك عَن يزِيد بن هَارُون أَن شَرِيكا لم يرو عَن عَاصِم بن كُلَيْب إِلَّا هَذَا الحَدِيث وَأقرهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَجِيب مِنْهُمَا، فقد رَوَى شريك عَن عَاصِم بن كُلَيْب عدَّة أَحَادِيث: أَحدهَا: حَدِيث «رَأَيْت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين افْتتح الصَّلَاة رفع يَدَيْهِ حِيَال أُذُنَيْهِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة، عَن شريك، عَن عَاصِم، عَن أَبِيه، عَن وَائِل.
ثَانِيهَا: حَدِيث «أتيت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الشتَاء فَرَأَيْت أَصْحَابه يرفعون أَيْديهم فِي ثِيَابهمْ فِي الصَّلَاة» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث وَكِيع عَن شريك، عَن عَاصِم، عَن عَلْقَمَة، عَن أَبِيه. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث شريك، عَن عَاصِم، عَن أَبِيه، عَن وَائِل.
ثَالِثهَا: حَدِيث «أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم جهر بآمين» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث شريك، عَن عَاصِم، عَن أَبِيه، عَن وَائِل. فاستفد ذَلِك.
تَنْبِيه: جَاءَ فِي رِوَايَة لأبي دَاوُد فِي سنَنه ومراسيله من حَدِيث عبد الْجَبَّار بن وَائِل، عَن أَبِيه «وَإِذا نَهَضَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَاعْتمد عَلَى فَخذيهِ» وَقد علمت فِيمَا مَضَى مَا فِي هَذِه التَّرْجَمَة من الِانْقِطَاع.